لحم الإبل
يعتبر لحم الإبل من لحوم إحدى الحيوانات التي أباح أكلها للمسلمين، فلا أكله واجباً ولا سنّة، إلا أن جمهور العلماء اختلفوا بوجوب الوضوء بعد تناوله أم لا، واستند كل فريق منهم إلى عدّة أدلّة تدعم رأيهم من السّنة أو القرآن.
لحم الإبل والوضوء
اختلف العلماء في نقض الوضوء بعد أكل لحم الإبل، واجتمعوا على رأيين: أحدهما يقول ببطلان الوضوء بعد تناوله، وأحدهم ينفي الأمر.
الرأي الأول
إنّ أكل لحم الإبل نيئاً أو مطبوخاً أو مشويّاً بعلم، فإنّه يُبطل الوضوء، وهو رأي كل من أحمد بن حنبل، وابن حزم، ورأي الشافعي الأول، أما من الشّافعية فاختاره كل من البيهقي، وابن المنذر، وابن خزيمة والنوويّ. ورجّحه كل من ابن تيمية، وابن القيم، والشوكاني، والصنعاني.
أما دليل هؤلاء العلماء في نقض لحم الإبل للوضوء، فقد أخدوا بأكثر من دليل:
الدليل الأول: الحديث الشريف الوارد عن الرّسول عليه السّلام: (أنَّ رجلًا سأَل النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رسولَ اللهِ أنتوضَّأُ مِن لحومِ الغَنمِ؟ قال: إنْ شِئْتَ فتوضَّأْ، وإنْ شِئْتَ فلا تتوضَّأْ. قال: أتوضَّأُ مِن لحومِ الإبلِ؟ قال: نَعم، توضَّأْ مِن لحومِ الإبلِ. قال: أُصلِّي في مرابضِ الغَنمِ؟ قال: نَعم. قال: أُصلِّي في مبارِكِ الإبلِ؟ قال: لا).
الدليل الثاني: وهو حديث شريف أيضاً ورد عن الرّسول عليه السّلام: (سُئِلَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عنِ الوُضوءِ من لحومِ الإبلِ، فقالَ: تَوضَّؤوا مِنها. وسئلَ عن لحومِ الغنمِ، فقالَ: لا توضَّؤوا منها. وسُئِلَ عنِ الصَّلاةِ في مَبارِكِ الإبلِ، فقالَ: لا تصلُّوا في مبارِكِ الإبلِ، فإنَّها منَ الشَّياطين. وسُئِلَ عنِ الصَّلاةِ في مرابضِ الغنمِ، فقالَ: صلُّوا فيها فإنَّها برَكَةٌ).
قال ابن قدامة في كتابه المغني: (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: فِي الَّذِي يَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ: إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ لَيْسَ عَلَيْهِ وُضُوءٌ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ قَدْ عَلِمَ وَسَمِعَ، فَهَذَا عَلَيْهِ وَاجِبٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ عَلِمَ، فَلَيْسَ هُوَ كَمَنْ لَا يَعْلَمُ وَلَا يَدْرِي. قَالَ الْخَلَّالُ: وَعَلَى هَذَا اسْتَقَرَّ قَوْلُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْبَابِ.
قلت: وَبِهَذَا يَقُولُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ).
الرأي الثاني
إنّ أكل لحم الإبل بجميع أشكاله لا يُنقض الوضوء، وهو الرأي الذي ذهب إليه كل من أبي حنيفة وصاحبيه، وأنس بن مالك، والشّافعي في رأيه الثّاني، وهو الرأي الثابت عنه.
أما الأدلة التي استند إليها هؤلاء العلماء في عدم نقض أكل لحم الإبل للوضوء فهي كما يأتي:
الدليل الأول: ما ورد عن الرّسول عليه السّلام في الحديث الشريف: (كان آخرُ الأمرَينِ من رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تركُ الوضوءِ ممّا مستِ النارُ)، وشرحه الطحاوي في كتابه فقال: (فَإِذَا كَانَ مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ هُوَ الْوُضُوءُ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ، وَفِي ذَلِكَ لُحُومُ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا، كَانَ فِي تَرْكِهِ ذَلِكَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ). أي أن الحديث هذا جاء ناسخاً لحديث جابر بن عبد الله، فألغى حكم العمل به، إلا أن النووي ردّ على هذا الرأي فقال: (وَأَمَّا النَّسْخُ فَضَعِيفٌ أَوْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ تَرْكِ الْوُضُوءِ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ عَامٌّ، وَحَدِيثَ الْوُضُوءِ مِنْ لَحْمِ الْإِبِلِ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ يُقَدَّمُ عَلَى الْعَامِّ، سَوَاءٌ وَقَعَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ).
الدليل الثاني: وهو الحديث الشريف الذي ورد عن الرّسول عليه السّلام: (عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عنهُما: إِنَّما الوُضوءُ ممَّا يخرجُ وليسَ مما يدخلُ، وإنما الفِطرُ ممّا دخلَ وليسَ مما خرجَ)، ويعني هذا الحديث أن مفسدات الوضوء هو ما يخرج من الجسد، كالبول والريح والغائط، والدم عند المرأة، أمّا ما يُفسد الصّيام فهو ما يدخل إلى الجوف لا ما يخرج منها، وعليه، لم يتمّ ذكر أكل لحم الإبل ضمن مبطلات الوضوء.
الدليل الثالث: وهو ما ورد عن الطحاوي في كتابه في قياس الأحكام الواردة في الغنم وتطبيقها على الإبل، فقال: (وإِنَّا قَدْ رَأَيْنَا الْإِبِلَ وَالْغَنَمَ، سَوَاءً فِي حِلِّ بَيْعِهِمَا وَشُرْبِ لَبَنِهِمَا، وَطَهَارَةِ لُحُومِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا تَفْتَرِقُ أَحْكَامُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. فَالنَّظَرُ عَلَى ذَلِكَ، أَنَّهُمَا، فِي أَكْلِ لُحُومِهِمَا سَوَاءٌ. فَكَمَا كَانَ لَا وُضُوءَ فِي أَكْلِ لُحُومِ الْغَنَمِ، فَكَذَلِكَ لَا وُضُوءَ فِي أَكْلِ لُحُومِ الْإِبِلِ)، وردّ ابن القيم على هذا الرأي فقال: فإن صَاحِبُ الشَّرْعِ قَدْ فَرَّقَ بَيْنَ لَحْمِ الْغَنَمِ وَلَحْمِ الْإِبِلِ كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ مَعَاطِنِ هَذِهِ وَمَبَارِكِ هَذِهِ، فَأَمَرَ بِالصَّلَاةِ فِي هَذَا وَنَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي هَذَا. فَدَعْوَى الْمُدَّعِي أَنَّ الْقِيَاسَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: (إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا)،وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا فَرَّقَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْإِبِلِ وَأَصْحَابِ الْغَنَمِ، فَقَالَ: (الفخرُ والخُيَلاءُ في الفَدَّادينَ أهلِ الوبَرِ، والسكينةُ في أهلِ الغنَمِ، والإيمانُ يَمانٍ، والحكمةُ يَمانيةٌ))، وهو الأمر الذي أكّد عليه ابن قدامة، تلميذ ابن قيم.
الدليل الرابع: أن هذا مما انتشرت به البلوى، وأردف علاء الدين الحنفي حول هذا الرأي في كتابه بالقول: (مِمَّا يَغْلِبُ وُجُودُهَا، فَلَوْ جُعِلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَدَثًا لَوَقَعَ النَّاسِ فِي الْحَرَجِ)، إلا أنّ ابن حزم ردّ على هذا الرأي بقوله: (وَهَذَا حَمَاقَةٌ، وَقَدْ غَابَ عَنْ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الْغُسْلُ مِنْ الْإِيلَاجِ الَّذِي لَا إنْزَالَ مَعَهُ، وَهُوَ مِمَّا تَكْثُرُ بِهِ الْبَلْوَى، وَرَأَى أَبُو حَنِيفَةَ الْوُضُوءَ مِنْ الرُّعَافِ وَهُوَ مِمَّا تَكْثُرُ بِهِ الْبَلْوَى، وَلَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَرَأَى الْوُضُوءَ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ مِنْ الْقَلْسِ وَلَمْ يَرَهُ مِنْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا تَعْظُمُ بِهِ الْبَلْوَى، وَلَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ قَبْلَهُ، وَمِثْلُ هَذَا لَهُمْ كَثِيرٌ جِدًّا، وَمِثْلُ هَذَا مِنْ التَّخْلِيطِ لَا يُعَارِضُ بِهِ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا مَخْذُولٌ. وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ).