العربية إنسانية
الوصول للقلوب ليس سهل المنال، وتَفهم الأحوال ما عاد بالشيء المستطاع، غير أن قوام اللسان أمرٌ يقربك من الاحتواء، وهذا لن تجده إلا بالعربية وحروفها التي يُشهَدُ لها بالرقي الإنساني، حتى من العلماء غير الناطقين بها، فَلِمَ يشهدُ لها بهذا الرقي؟
وبإجابة كافية، شافية، وافية أستطيع أن أقول؛ لاتسامها بخصال تنفرد بها عن غيرها، فمن أكثرِ خِصال العربية رونقاً مناسبة الحروف لمعانيها فالغين مثلاً حرف يفيد الاختفاء، وعدم الحضور، فمتى كان الغين حاضراً في كلمة، طغى على الكلمة إحساس الغياب، فلا عجب أن يدنو منك إحساس الاستدارة والاختفاء، كلما علا حلقك صوت حرف الغين، ونطقت غاب، أو غَرَبَ. أجل هي حروف صماء، لا تتحرك، غير أنها مرهفة الإحساس تجمع حروفها، وتشكل كلمات تفهم مشاعرك المدفونة داخل أحشائك، وتتعاطف مع حالتك التي أنت فيها الآن، فتخرج لك كلمات متبوعة بعبارات، تطفىء لهيب قلبك الثائر داخلياً، فبعد أن ينطفىء ذاك اللهيب يتلهف فؤادك لكل شيء يقاس به الإحساس، لتكن ضالته كل كلمة تحتوي على حرف السين، فالسرور والأنس، والسر كلمات تفرقت السين فيها، إلاّ أنها أجمعت على وجود إحساس قوي فيها، ولا إحساس أقوى من ذلك الذي تشعر به عندما تقرأ آية جامعة لأكثر مواضع السكينة في سورة التكوير” والليل إذا عسعس، والصُبحِ إذا تنفس” فسحر الليل سكينة، وتنفس الفجر، محطة أنس أُخرى، فما أجملَ صوت السين حين يتماهى مع إحساسك! ويركّب لك كلمات شتى، أختصرها بإحساس حرف السين في كلمة الإنسانية!
ولو أسهبت في معنى كل حرف لَما انتهيت، ولكنني سأتتبع معنى حرف الراء الذي يفيد التكرار، وأبقى أكرر العربية إنسانية تأسرُ قلوب البشرية.
ولعل لنا في الاشتقاق دليل وبرهان من نوعٍ آخر ، يؤكد تشرب اللغة العربية للإنسانية ببراعة عالية، فنظام الأُسرة التي تتكىء عليه العربية بموادها، وأفعالها، وصيغها بالأوزان المتعددة، تشكلُ عشرات بل مئات الكلمات التي مهما اختلفت بنيتها ومعناها الصرفيّ، يعود أصلها لجذر واحد، يؤلّف _ بعلاقاته الإنسانية الممتدة_كلمات شتى، لتتفرد بذلك عن باقي اللغات الفقيرة إلى تلك الأواصر الإنسانية، التي تمنحها الترابط والتعاضد، ولو قسنا ذلك على الفِعل” كتب”، لوجدنا الأشياء المرتبطة بالفعل ذاته، مشتقةٌ منه “مكتب”، “كتاب”، أما في الإنجليزية مثلاً فيقتل الترابط، وتختفي العلاقة الاجتماعيّة بين الكلمات فيغدو الفعل”Write” وما يرتبط به “Book” ,“ Office” كلمات لا يؤلّف بينها في اللفظ رابط.
هذا ناهيك عن احتواءالصيغ الاشتقاقية لصيغة فاعَل التي تُفيد المشاركة ً التي تلبي حاجةً أساسية للنفس البشرية، ذات الطبيعة الإنسانية التي تتفهم الآخر، وتمنحه التجربة، وهذا ما تفتقر إليه سائر اللغاتِ غيرها؛ كونها – بموجب هذه الصيغة- تسمح للفاعلِ أن يكون مفعولاً به، والعكس صحيح.
والعربية تشبعُ أيضاً رغبة الإنسان في التميز عن نَظيره ولو كان توأماً له، فبِخصلةِ الإعراب تتحقق الرغبة تلك، فشتان بين البِر، والبُر، والبَر، ثلاثٌ مجتمعاتٌ في الشكلِ، متفرقاتٌ في المعنى، فبسبب الحركة الأقوى بينهن (الكسرة) تحقق معنى الإحسان، والتي تليها قوّة (الضمّة) أُريد بها معنى القمح، وبأضعفهنّ (الفتحة) أصبح القصد اليابسة نقيض الماء، وقس على ذلك كثيراً من الكلمات الأخرى أُورِد منها على سبيل المثالِ لا الحصر خَلْق، خُلُق، خَلِق، فهي بتسكين اللام تعني البُنية، وبضمها يصبح المُراد الصفات، وبقلّب حركة عين الكلمةِ ذاتها من ضمة إلى كسرة يصبح المعنى المراد الإهتراء بفعل كُثرِ الاستخدام.
ولن يتوقف حرص العربية على التشربِ الصحيح لمعاني الإنسانية التي تحتوي الجميع، مع إعطاءِ كُلَ ذي قَدرٍ قدره عند الأسماء بل يتعدى ذلك ليشمل الأفعال بشقيها المزيدة والمُجردة، فعندما نتعامل مع مادة خرج يكون المصدرُ منها مَخرج، وبمجرد زيادة الألف ليصبح الفعل رباعي مزيداً بحرف؛ للدلالةِ على أن الفعل لن يكون بمحض إراداة الإنسان، بل كان هناك من يُحركه ويدفعه للقيام يصبح المصدر مضموم الأول” مُخرجَ” فكُل زيادة في المبنى يرافقها اختلافٌ في المعنى والتشكيل، فالعربية لا ترضى لقارئيها أن يكون وزن أحمد كمحمد! فما دام الوزن الصرفي يشيرُ لاختلاف ولو طفيف يُعطى هذا الاختلاف اهتماماً يحفظ له هويته ومكانته، ولا أدل على ذلك قول الله جل جلاله في محكم التنزيل” ربي أدخلني مُدخل صدق، وأخرجني مُخرج صدق” فلم تكن الميم في مدخل أو مخرخ مفتوحة حتى لا تفهم أنها مشتقة من فعل ثلاثي، والصحيح أنها مشتقة من أفعالِ رباعية مزيدة بحرف وهي أدخل وأخرج، فالضمة حفظت للأفعال آنفة الذكر حقها الذي يميزها عن كلمة مَخرج المشتقة من الفعل الثلاثي خَرجَ.
ومن هنا نستنتج أن قارىء العربية يفهم ليقرأ صحيحاً، على نقيض بعض اللغات الأجنبية الرائجة في عصرنا الحالي التي تقرأ فيها لتفهم، وتقديم الفهم على القراءة بحد ذاته إنسانية تُكرم الإنسان، وتحترم كينونته، فما يميز الإنسان عن غيره العقل الذي بسببه نفهم الأشياء، ويمكّننا من أخذ القرار بالتخيير لا بالتيسير، وهذا ما تتيحه لنا نصوص العربية، بتطلب فهم سياقها من أجل الضبط الصحيح لإتمام المعنى، لا إفساده.
ولا أبالغ عندما أقول: إن العربية وصلت إلى أرقى مستويات الإنسانية بفعل اتساع تعبيرها الذي يُحاكي المشاعر الإنسانية. أجل، إنها لغة، غير أنها مرهفة الإحساس فكل كلمة فيها تجسد شعور داخلي لناطقها.
وأوجز ما سلف باستشعار العربية لمشاعر النظر التي تصاحب الإنسان، فإذا كانت العملية اعتيادية أي بالعين، ومجردة من المشاعر يكون الفعل الأنسب لها ” نظر” أما إذا نظر بقلبه يكون الفعل المناسب رأى، وإذا نظر بمحبة للشيء، يصبح الفعل المناسب للتعبير حدّج، ولذلك يقال” حَدث القومَ ما حدجوك بأبصارهم”، أما إذا نظر الإنسان باستمتاع، فالصوابُ أن يعبر الناظر عن مشاعره بالفعل” رنا” وإذا نظر مع تمطٍّ- رفع القدمين- يقال عن الناظر في هذه الوضعية أنه استشرف الشيء المنظور إليه، وإذا نظر مع وضعية لمس – تحريك اليدين- فالتعبير الأمثل هنا هو “استشف”، أما النظر على عجالة يسمى ب ” اللمح”، وآخر ما أذكره في مشاعر النظر هو الخوف، فإذا لازم الخوف النظر فإن الفعل الملائم لإيصال تلك المشاعر هو “شَخَص”.
كما أن حركة العين عند حصول هذه العمليات تسمى بتعابير مختلفة، فمثلاً إذا اتّسعت حلقة العين عند النظر، فيقال عن الناظر حينها أنه ” بحلق” أما إذا اتسع حملاق العين الأحمر تحت جفن الناظر عند النظر يقال عنه أنه” حملق”.
فكيف حالُ قناعتك الآن من إنسانية العربية؟ أأرهقتك الحجج والبراهين التفصيلية؟ لا تقلق، فإني من هنا أجزمُ لك أن العربية ضالة للذي يهوى التوسع، والاختصار، فالأولى كنا قد أوضحناها بشيء من الإطالة فماذا عن الثانية؟
يتمثل قرب العربية ممن يهوى الاختصار والإيجاز بخصال فريدة تتميز بها العربية عن غيرها، ويأتي في مقدمة هذه الخصال بأنها تملك أوسع مجال صوتي يؤهل الحرف أن يكون في النطق حرفين أحياناً، فالسين صاد مرققة، والصاد سين مفخمة، والدال ضاد مرققة، والضاد دال مفخمة، والتاء طاء مرققة ، والطاء تاء مفخمة.
غير أن هذا ليس الشكل الوحيد الذي تقترب فيه العربية ممن يفضلون الاختصار والسرعة في الكلام، بل توفر لهم اشتقاقاً يسمى ” كُبّار” يختصر تسمية بعض العمليات، فبدلاً من القول: ” فلانٌ قال سبحان الله”، يقال: ” فلانٌ سبحلة”
وبدلاً من: “إنا لله وإنا إليه راجعون” نقول: ” فلانٌ استرجع”، وعليها يقاس
” حوقلة” و”دمعزة” و” حيعلة”وغيرها الكثير.
وهناك أسماء بالعربية تعني شيئين متناقضين في المعنى، فأن نقول مولى فالمعنى يحتمل السيد والعبد، ولا شيء يمنع أن تُوجِز تعبيرك بمن يبيع ويشتري بقولك
” فلانٌ يشري” لأن يشري تحتمل المعنيين.
وبالمحصلة تلك فإنني لا أبغي تنميقاً ولا تحسيناً، فقيمة العربية ورقي إنسانيها بَينٌ لا يُدفع، ومكشوفٌ لا يتقنّع، فعندما تحتوي العربية بمعجم لسان العرب وحده ثمانين ألف مادة، في كل مادة من ثلاثين إلى أربعين لفظة على الأقل، في المقابل يصل مجموع الألفاظ في بعض اللغات الأجنبية ما يُقارب خمساً وعشرين ألف لفظة! وهذا وحده كفيل أن نتفكر للحظة بتشريف الله – جل جلاله- العربية لغة للقرآن، فهل يا ترى سيجد قول الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان:
” أصلحوا ألسنتكم، فإن المرء تنوبه النائبة، فيستعيرُ الثوب والدابة، ولا يمكنه أن يستعير اللسان، وجمال الرجل فصاحته” آذاناً صياغةً تمتثل أوامره؟!، وتؤكد صحة لسان عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما قال:
” تعلموا العربية فإنها تزيد المروءة”؛ لتتيقن بعدها أن من حفظ للعربية إنسانيتها ساد، وغنم، وانتصر، ومن أهملها هان، وضعف، وافتقر.
بقلم: أمل صدق